Monday, April 6, 2009

صلاح الباشا - كروان السودان الراحل ... والغناء للوطن ( 2 - 7





--------------------



صلاح الباشا
أسرة النافذة ترحب بكم علي صفحاتها

--------------



الأخ المبدع رئيس تحرير النافذة المتألقة
الإخوة كوكبة التحرير
السلام عليكم
بعد غياب طويل عن النافذة .. عدت إليها للإطلاع ..وإذا بي أجد نفسي أمام جهد إبداعي وثقافي وتنويري ضخم جدا يستحق الإشادة والمؤازرة أيضا ، وعليه فإنني سأمد لكم يد التعاون للمساهمة معكم ( دون مقابل ) ببعض الإسهامات الفنية والثقافية والمتنوعة .. والتي ( في تقديري الشخصي) ستعمل كثيراً - مع المساهمين الآخرين - علي ربط الأجيال التي نشأت في المهاجر البعيدة بثقافات وتقاليد وتراث الوطن الحبيب , والذي شاءت الظروف بأن يمر بأسوأ مراحله خلال السنوات الأخيرة علي إمتداد تارخه الحديث ...
شكراً لكم .. وإلي الأمام ..مع عاطر تحياتي


صلاح الباشا
كاتب متخصص في الثقافات والفنون السودانية
الدوحة / دولة قطر

-----------------



كروان السودان الراحل ... والغناء للوطن ( 2 - 7 )
بقلم: صلاح الباشا .. الدوحة
salahelbasha@hotmail.com
-----------

بمناسبة حديثنا سابقاً عن فعاليات المنتديات الثقافية بالسودان ، سوف نسرد هنا مثالاً راقياً حول تلك المنتديات... فقد كانت فرصة عظيمه أن دعاني إبن أختي (الرشيد حميده ) في خريف2000م خلال إجازتي بالسودان ، دعاني إلي أمسية في منتدي الخرطوم جنوب ، وقد تجمعت في ذلك المساء الخرطومي سحائب خير وبركة ولعله المُزن، فكانت السماء تحتقن بتجمعات سحائب أمطارخريف قد تأخرهطولها ، وأتت رائحة دعاش جميل ليخفف من وطأة السخونه المنسحبه من باقي نهار كان حاراً في الخرطوم وقتذاك والشهر كان أغسطس ، وربما لا تجعلك تلك السحب مفرطاً في التفاؤل بأن الأمسية ستعدي علي مايرام في طقسها المتقلب ذاك، فتواصلت نسمات الدعاش تهب من شمال الجزيرة ليتساقط رزازاً ناعماً لم يمنعنا متعة الذهاب لمشاهدة حوارات المنتدي النديانه بالخرطوم ثلاثه، حيث كان من ضمن ضيوف المنتدي الأستاذ الشاعر المجدد والمتجدد أزهري محمد علي الذي تحدث عن التجربه... تجربته ومشواره مع الكروان مصطفي سيد احمد ، كان حديث أزهري ينم عن مقدرات إبداعية تعكس بريقاً متوهجاً وتعطي مؤشراً قوياً بأن هنالك حزمة فرسان يكتبون بهذه اللغه الجديدة التي تم سبرغورها بكثافة هائلة مؤخراً ، وقد سار علي ذات النهج معظم (أهل الإبداع في بلادي) ، وفي ذلك المنتدي الذي كان يضم الجنسين من شباب الحي المترابط والمثقف والواثق من نفسه تماماً و الذي إفتقد كروانه العجيب الذي كان بمثابة عموده الفقاري في سنوات عافيته بالسودان،وقد تحدث مقدم الندوة الأستاذ أمير التلب وهو من القامات الإبداعية والإعلامية المتميزة ، وقد عرفناه منذ بداية السبعينيات حينما كان مديراً لمسرح الجزيرة بودمدني وهو الآن مدير العلاقات العامة والإعلام بمؤسسة الأسواق الحرة بالخرطوم، وعندما رأيته يدير المنتدي قمت بتحيته بوريقة صغيرة ، فللرجل علاقة قديمة مميزه مع عائلتنا بودمدني، فلم يتردد في أن يرحب بنا والنشوي تتملكه عبر المايكرفون ، حيث أشار إلي أجمل سنوات عمره التي قضاها بعاصمة الجزيرة وذكرياته مع أخي الأكبرالراحل الأستاذ حسن الباشا مؤسس إتحاد فناني الجزيرة بودمدني. ثم قرأ أزهري مودعاً كروانه وصديقه مصطفي سيد أحمد في مرثيته حيث قال:-
أبداك من وين؟؟
وفيني منك.. لسه حاجات
من مخاوف.. ومن شجن
أبداك من وين؟؟
وظني إنك..فكرة إعلان الحياة
وإنتهاءات العوارض .. والمحن
نفسي ألقاك..
وأكون أنا.. كلي من بعضك
أو.. بعضي من كلك بدن
وداير أبقاك..وأوحِّد دورة الدم..
المقسمه بيني بينك.. والسحن
ومن المعروف غنائياً كما كتب (عتيق) وتغني بها (بادي) أن -الكواكب إحتفلوا بالقمر_ فكانت الكواكب هي حزمة كل شعراء مصطفي الموهوبين ، أما القمر فقد كان هو كروان الجيل... نعم هو مصطفي سيد احمد الذي اضاء بروعة أشعارهم كل مساحات الزمن. ونحن عندما نظل نكتب دون كلل أو ملل عن منجزاته الإبداعية والوطنية ، نكتب لأننا ظللنا نكتشف في كل مرة أن له رصيداً ضخماً من الألحان المطربه يخرج ضؤها خافتاً في البداية ثم سرعان مايزداد بريقها ولمعانها يوماً بعد يوم ، ونتمني أن يتناقش فيها المختصون في مجال علم الموسيقي والصولفيج ويضعونها في دائرة أبحاثهم في أجهزة الإعلام المختلفة وعليهم أن يحاولوا منهجياً إعداد بحوث جادة حول هذا الكم الهائل من الإبداعات التي ظل يقدمها الراحل مصطفي سيد احمد حتي رحيله، ولنبحث لنعرف لماذا تظل أعماله تقاوم كل الأزمنة حسب إتجاهات الرأي العام الجماهيري، ولماذا ظل الشعراء يمطرونه شعراً وقد كان بعيداً عنهم ، ولم يسبق له أن شاهد بعضهم ولكنه كان يتغني بأشعارهم . وحقيقة ...لقد إفتقدت بلادنا في منتصف الثمانينيات من قرننا الماضي أعظم ناقد ومفكر ومؤلف موسيقي عربي وأفريقي حيث كان ذا أفق أكاديمي ونقدي واسع وهو الأستاذ الراحل الموسيقار (جمعه جابر) نائب رئيس المجمع العربي للموسيقي التابع لجامعة الدول العربية ومقره في العاصمة العراقية بغداد ، ويقيني لو كان هذا الرجل.. جمعه جابر.. علي قيد الحياة لكانت أعمال الكروان مصطفي قد وجدت النقد والتحليل العلمي المتقدم والإيجابي 0 ولكن000 دائماً تظل الرياح تأتي بما لا يشتهي (السَـفِنُ) .
ولقد سبق للشاعر المبدع أزهري محمد علي أن كتب في رثاء الكروان في حفل التأبين الذي أقيم في أربعين الراحل بقرية ودسلفاب في عام 1996م قائلاً في مرثيته التي أسماها ( سلامات يازول يارائع) :-
فات الكان..بدينا الألفه
وكان راوينا
فات الباكي جرحنا..
وناسي جروحو..ولافـِّي ورانا
مدينه.. مدينه
فات الصاحي..ونحن نغط
في النومه السابعه
طالق حِسو.. ولا حَسّينا
حتحت فينا.. غناهو الطاعم
وفات قـنعان..
من خيراً فينا000000
نعم000الكروان مصطفي هو مثل خليل فرح الذي كان الإستعمار يضرب تعتيماً كاملاً علي كل أعماله ، بل كم من مرة طلب منه السكرتير الإداري الإنجليزي عدم مغادرة العاصمة إلي مناطق اخري بالسودان بعد ان أنشد في ودمدني في عام 1930م في مناسبة زواج الحاج محمد أحمد سرور (رائد الغناء السوداني) أغنيته الشهيرة: مالو أعياه النضال بدني ..روحي ليه مشتهية ودمدني ، فتم حرمان الخليل من مغادرة العاصمة وإستكتبوه تعهداً بذلك ، ولكن رغم ذلك فإن أعماله .. أعمال الخليل.. لا زالت راسخه في وجدان الجماهير بالرغم من عدم وجود فضائيات وصحف عديدة ومجلات راقية في ذلك الزمان. كذلك أعمال الكروان الراحل مصطفي سيد احمد ستظل راسخه ومتجدده ومتألقه ، وستتناولها الأجيال جيلاً بعد جيل ، خاصة بعد أن تم توثيقها خارج السودان وفي عدة دول بواسطة شباب جيل التقانة بكل الوسائل التقنية الحديثة ( الإنترنت- والسي دي) فأسسوا عدة مواقع إليكترونية لنقرأها نصوصاً ونستمتع أيضاً بها (أوديو) - صوت -في الكمبيوتر، ،فضلاً عن الكاسيت المنتشر، ونتمني بذل بعض الجهد والإهتمام الإعلامي بمحاولة جمعها وبثها عبر الإذاعة طالما لم تتح له ظروفه المرضية قبل رحيله من الوجود المستديم بالبلاد لتسجيلها تلفزيونياً . ولا أدري لماذا كان يقوم البعض في الماضي بمحاولات تعتيم لحصر وتصنيف أعماله في زوايا أيدولوجيه معينه لم يسبق له أن تحدث عنها، حيث عُرف في الكروان طوال تاريخه الفني بعدم التغني بالأيدولوجيات ، ولا يوجد واحد من شعرائه كتب له شيئاً ذا علاقة بالفعل السياسي إلا بما يهم قضايا الجماهير، فالإبداع هو حق إنساني مشروع طالما لم يكن يصادر رأي الآخرين ولايعوق إبداعاتهم حتي ولو كان الإبداع سياسياً صرفاً، و كان هذا التصنيف الخاطيء والتهميش الإعلامي السوداني البائن في فترة من الفترات لأعمال هذا الكروان الراحل قد أدي إلي تعاظم إعجاب الشباب به بإستمرار ، مما أضفي عليه هذه الهالة من حزمة الإنبهار بكل أعماله ، حيث كان تفسير العديد من المتابعين لحركة الإبداع يرون أن هذا الكروان الراحل كان يتغني بأحاسيس الشباب كله و(الغلبان) منه بالذات ، رغم إنزعاج بعض الناس عندما يأتي ذكر إسم الغلابه دائماً!!!
أو لم يلاحظوا أن هذه اللغه الجديدة التي تشتمل علي أدبيات الغناء بهموم الجماهير التي أنهكها مشوار النفق المظلم الذي تندرج تحت جنح ليلهِ كل معاناة أهل السودان ، وقد أصبح الإنتظار مملاً كي تنجلي ظلمات ذلك الليل الطويل ، فقد كتب تلك الأشعار التي تفيض بعشق الحبيبة ( الوطن) جمهور الشعراء المبدعين من داخل السودان ولم يتم تصنيف أعمالهم بواسطة الجمهور بأنها مسيسة أو حتي مبتذلة ؟ فهي فقط لغة شعرية وطنية راقية وقد فرضت نفسها لأنها كانت تعبر عن أحاسيس وقضايا وهموم الجماهير ، بالغرم من أن البعض لم يأبه بها متعمداً في ذلك ، (وكل واحد هو حُر في مشاعره )0ولكن تبقي الحيقية في أنها قد فرضت نفسها بقوة وبكثافة بائنة ( فالعبرة بالخواتيم) حيث ظلت تلك الأعمال الإبداعية بما تزدحم به من جماليات عاطفية ووطنية في نفس الوقت تعبرعن أسرار أشواق الشباب المشروعة في الوجد والعشق النبيل الذي حولته تعقيدات الحياة إلي الحزن النبيل مما قاد إلي أن تصبح كل أعمال هذا الكروان الراحل نماذج جميله يري فيها هذا الجيل من الشباب المثقف كل ملامحه وسحناته ، وقد كان الكروان قد أتي من وسط هذا الجيل ، فجاءت أعماله وكأنها قد فصلت من أجل جيله خصيصاً حين أشار لذلك الشاعر حافظ عباس منذ زمن طويل :
بنبقي نحن 00مع الطيور
المابتعرف ليها خرطه
ولا في إيدا00جواز سفر
نمشي في كل المداين
نبني حبنا بالغناوي
وننثر الأفراح دُرر
والربيع يسكن جوارنا
والسنابل تملأ دارنا
والر ياحين والمطر
والحبيبه تغني لينا
لاهموم تسلك دروبنا
وما بلاقينا الخطر
نحن باكر 00 ياحليوه
لمان أولادنا السمر
يبقوا 00 أفراحنا
البنمسح بيها00أحزان الزمن
نمشي في كل الدروب
الواسعه ديك..والرواكيب الصغيره
تبقي أكبر من مدن
لقد تغني بها في زمن مبكر الكروان الراحل عندما كان شاعرها حافظ عباس يري ملامح الأسي في أفواج النازحين من واقع الجفاف والتصحر متجهين زرافات ووحداناً نحو النيل بالعاصمة السودانية ، وقد كانت سلطات حكم النميري وقتذاك تمنعهم من الوصول لأطراف العاصمة الخرطوم حتي لا تنقل وكالات الأنباء للعالم قصة تلك المأساة الإنسانية التي تمثلت في المجاعات الشهيرة في ذلك الزمان الأغبر ، وقد لاحظنا الآن نفس عنصر المعاناة وشبح المجاعات يطل برأسه مرة أخري ليهجم علي شعب السودان في ولايات الغرب( فالتاريخ قد أعاد نفسه) . وقد فهم الكروان الراحل إشارة الشاعر التي تعبر قصيدته عن أحزان أولئك النازحين ، فأنجز تلك الأغنية الوطنية التاريخية التي سكنت في وجدان الجماهير سكوناً مستديماً. نعم... نبقي نحن مع الطيور المابتعرف ليها خرطة ولا في إيدها جواز سفر ، نعم .. هـُم النازحون الغلابة وليس غيرهم ..
ولاتزال إبداعات الكروان مصطفي سيد احمد تسكن في خواطرنا ... فإلي الحلقة القادمة،،،،


كروان السودان الراحل ... والغناء للوطن ( 1 – 7 )
بقلم : صلاح الباشا ... الدوحة
salahelbasha@hotmail.com
عندما يتحدث أهل السودان في مهاجرهم وفي داخل الوطن العزيزعن جماليات الغناء للوطن فإن سحائب الحزن سرعان ما تتجمع لتغطي مساحات الزمن ،فيتذكره معجبو فنه في كل المهاجر القريبة والبعيدة وفي داخل الوطن الذي كم تغني له الكروان الراحل مصطفي سيد أحمد الراحل بتلك اللغة الجديدة التي إكتشفها خيال شعرائه الشباب الذين خبروا في ذلك الكروان تلك القدرات الموسيقية التطريبية الهائلة ،بمثلما خبروا فيه الحس الوطني المتجرد ليترجم مفردات أولئك الشعراء ألحاناً شجية تحمل دفئاً عجيباً لا يشعر به إلا من إمتلك الحس الرهيف الممزوج بالإنحياز العميق لقضايا وآلام وآمال وتطلعات شعب السودان الذي كتبت له المقادير أن يعيش مأساة معاناة ظلت تحيط به إحاطة السوار بالمعصم ، فلم يستطع منها فكاكاً ، لم يقدر علي تحقيق بعض أمانيه ورغباته المشروعه في كل شيء ، لم يتمكن من أن ينعم بالسلام وبخيرات البلاد المتعددة ومنها العمل الشريف القويم والجسم المعافي السليم والحفاظ علي العش الهاديء والمتواضع الذي يسعد به ويمارس دوره الطبيعي في تكوين أمة جديدة تعمل بمفاهيم جديدة ولصنع أجيال نظيفة جديدة لاتلتفت أبداً إلي المال الحرام أوالسكن الفاخر الحرام أوعيشة الهلع الشرهة الحرام 0فكان مصطفي سيدأحمد ومجمل شعرائه يخاطبون خيالات هذا الجيل بكل ما ظلوا يتمنون ويحلمون به من أشياء جميلة كباقي شباب الدنيا لعلها تتحقق، أو يتحقق بعضها0
فقد أحب هذا الجيل كروانه الراحل الذي كان يترنم بأرق وأعمق المفردات المكتنزة بأعذب الألحان0 ومصطفي سيد احمد كان قد نذر حياته لرسالة الفن الرفيع ، فكان بذلك يؤسس لقيام مشروع متكامل لتطوير جزء عزيزمن التراث المتعدد الألوان عند شعب السودان بحيث لا يمكن تجاوزه أو تهميشه أو إلغائه . فهذا الكروان الراحل أتي بمسارات لحنية جديدة وأتي شعراؤه بمضامين جديدة أيضاً ليؤكدوا بواسطتها شيئاً محدداً وهو أن فن الغناء لم يعد طرباً أرستقراطياً محدوداً يمارس داخل الصالونات أو في بيوت الأفراح أو أندية الليل، بل هو فنُُ ملتزمُُ يحتوي علي ثقافة شعبية كاملة تحمل قيماً رفيعة تعمل علي تنقية وتهذيب أذواق الشباب من القول الساقط المبتذل في مجال الفن والشعر الغنائي من كل شائبة ، فكان الكروان يخرج من غرفة غسل الكلي بمستشفي حمد العام بالدوحة ليذهب إلي مسكنه منهكاً ، لكنه كان يجد الورود في إنتظاره ، إنها ورود كان يأتي بها إليه القادمون من أرض الوطن ، كانت الورود نفسها تتلهف في أن يمسك بها ذلك الكروان ليستنشق رحيقها.. رحيق بلاده .. فكان يري فيها ملامح أهله البسطاء في قريته ودسلفاب بالجزيرة بالسودان ، كانت الورود هي تلك الوريقات البيضاء المتواضعة التي ظلت تقطع مشواراً طويلاً مابين الوطن و خليج العرب غير آبهة ببعد المسافة التي تقارب الثلاثة آلاف من الكليومترات ، نعم... كانت الورود هي ذات الوريقات التي تحتضن اجمل الكلام المعطر بعرق سهر مبدعي بلادنا من شباب الشعراء ، كتبوها في حالات ترقب كان مقروناً بالأمل في أن تجد طريقها إلي أحاسيس الناس عبر تلك الأنغام الشجية ، فيحتضنها الكروان بكل اللهفة و (الحزن النبيل) الذي كتب فيه الشاعر صلاح حاج سعيد ليترنم بها الكروان:-

بقيت أغني عليك.. غناوي الحسره
والأسف الطويل
وعشان أجيب ليك الفرح
رضيان مشيت للمستحيل
ومعاكِ... في آخر المدي
فتيني يا... هجعة مواعيدي القبيل
بعتيني لحضن الأسي
وسبتيني للحزن النبيل
فكان هذا التعبير ينتظر تلك الأنغام التي تتفجر موسيقاها ألقاً مستديماً ينساب من حزمة الوتر المفجوع الذي تركه الكروان مصطفي سيد أحمد خلفه في الدوحة عندما حمله الطائر الحزين ليواري جسده في ذلك التراب الطاهرفي ودسلفاب الوديعة الوادعة، ليجد أمواج الشباب كالسيل الهادر ينتظره في مطار الخرطوم الذي كان أيضاً حزيناً حينذاك.. أتي الموج الحزين من كل حدب ليقول للكروان كم نحن نشتاق في أن نحمل نعشك فوق أعناقنا وفوق هاماتنا طالما كنت تنشر في دنيانا أفراحاً لا حدود لها رغم عنصر المعاناة التي كانت تظلل حياتك في إغترابك المرير خارج بلادك .. نعم ... كان التعبيرعفوياً في ذلك اليوم البارد في يناير من عام 1996م ، فلقد كان الكروان في سباق مع الزمن في أن يُخرج درراً إبداعية من الفن الأصيل ليكون تراثاً متقدماً ومميزاً يظل مفخرة لكل الأجيال القادمة . نعم.. أتت الجماهيرلوحدها دون ترتيب مسبق وكانت تظللها مشاعر الحب والدهشة (والحزن النبيل) وتغطيها حزمة الأسي التي كانت تلون مساحة الفنون والإبداع بألوان رماديه غير واضحة الرؤية0 وياللحسرة علي إعلامنا ، فلقد غاب التلفزيون يومذاك ، وكأنه لم يشاهد قبلها كيف تقابل تلفزيونات المنطقة نعوش مبدعيها وتعمل علي تخليد ذكري رحيلهم في كل عام ؟ ذلك000لأن المبدع هو جزء من نسيج تراث الشعوب ،لأن هذا التراث هو جزء هام وباق علي مر العصور0 وتلك كانت هي معاناة رموزالثقافة والتراث والإبداع الذي ظلت تلازمه وبصفة مستمرة بسبب مزاجية وحساسية أهل السياسة المترددة تجاه أهل الثقافة والإبداع 0تلك الحساسية التي لم تستطع الأجهزة الفكاك من إسارها إلا مؤخراً ( والحمد لله علي كل حال) ، حيث أصبحنا الآن نري النقلة النوعية للإحتفاء والإهتمام الإعلامي العريض والواضح بالرموز الغائبة كحالة فنان أفريقيا الأول وإمبراطور الغناء الأفريقي كله ( محمد عثمان وردي) وبمثلما يجري الإهتمام الإعلامي حالياً بكل ظاهرة إبداع جادة ، نتمني دوام هذا المنحي فقد كانت ترانيم الكروان الراحل لمفردات صلاح حاج سعيد تنساب فتقول:
أوفيت… وماقصرت في حقك
ولا كان ..عِرفه غيرك اصادفا
وقـِدر هواكي.. يجيبني ليك
جمّع قلوبنا.. وولّـفا
وقتين بقيتي معايا
في أعماق مشاعري المرهفه
لا منِـّك إبتدت.. الظروف
لا بيكِ.. إنتهت الأماني المترفه
ياسلام علي كل هذا الجمال الإبداعي ياصلاح ، لقد ظللنا ..والله..نردد كلماتك المتألقه والأنيقه والمشرقه حقاً مع الكروان دائماً حين يغرد: وقتين بقيتي معايا.. في أعماق مشاعري المرهفه.. لامنك إبتدت الظروف.. لابيك إنتهت الأماني المترفه0ولتستمر الحزن النبيل الأغنية...التي أنتجها الأخ الأستاذ (أحمد يوسف ) في شركة حصاد كي يحفظ بها وبالورود الأخري في كل الألبومات المنتجة المتميزة معظم ذلك التراث الغنائي الذي تركه خلفه الكروان ثم رحل من الدنيا في دوحة العرب حين حلقت روحه و بهدوء عجيب وفي لحظات قليلة إلي بارئها معلنة مغادرتها لهذه الفانية دون أن يسبب فيها صاحبها أي أذي لأي كائن 0
فكانت روائع ألحان أعماله التي إمتزجت بجميل مفرداتها التي إنتقاها برؤية متفتحة ومتقدمة جداً رغم كل ظروفه الضاغطة ، كانت تؤطر لآمال ظلت هي هاجس كل شباب بلادنا في العشق النبيل الذي تحول إلي ( الحزن النبيل) ، حيث يرتفع هنا صوت الكروان عالياً حينما كان ينفي شاعره بشدة أنه قد( شال الندم) ..نعم000 لم يعترف بالندم مطلقاً، ليشدو مع كاتبها قائلاً:
ندمان أنا ؟؟00 أبداً ..وحاتـِك
عمري .. ماشلت الندم
ما أصلو حال الدنيا
تسرق مُنيه.. في لحظة عشم
وأنا عندي ليك.. كان الفرح
رغم إحتمالي .. أساكِ
يا جُرح الألم
كان خوفي منك..
جايي من لهفة خطاكي
علي المواعيد الوهم
أهو... نحن في الآخر سوا
باعنا الهوي..
ماشين علي .. سكة عدم
وبقيت أغني عليك
غناوي الحسرة ..والأسف الطويل
كان أبناء شعبنا من كوكبة الشعراء المتألقين قد وجدوا في ألحان مصطفي وجديته ومسؤوليته تجاه العملية الإبداعية كل آمالهم في أن يطرحوا بقوة للجماهير تلك المفردات بكل جماليات اللغة الجديدة التي لم يجد الإبتذال إليها طريقاً ، فظلوا يكتبون بهذا ( الإستايل) المتفرد علي الدوام 0وهنا أيضاً قد كان الشاعر الملهم (أزهري محمد علي) واحداً من فرسان تلك الكوكبة الجديدة ، فجاءت

( وضّاحة) وقد أينعت شجرة أزهري الإبداعية بمختلف الثمار ذات النكهة الجاذبة مقرونة بالطعم اللذيذ . نعم... كانت وضاحة هي بعض هذا الحلم الجميل والمذاق اللذيذ الذي كتبه أزهري:
الصباح الباهي لونك
وضاحه..يافجر المشارق
غابة الأبنوس .. عيونك
يابنيه من خبز الفنادق
وضاحه لو طال الطريق
بيناتنا.. وإترامي المدي
ما تحني هامات النخيل
ما ترمي دمعات الندي
ما تشنفي العمر الجميل
ده.. العمر يادوب إبتدأ
وأنا بيكِ.. ماليني الكلام
حركت بيك .. عصب الدخول
جلبت ليك الغيم رحط
طرّزت ليك النيل زفاف
حرقت ليك الشوق بخور
فرشت ليك الريد لحاف
وهذه في تقديري أرهف وأرق كلمات العشق والوجد الذي أبدع الكروان الراحل في تحويله إلي أنغام شجية تبعث في النفس إنشراحاً لا حدود له ، فلقد ظللنا نقول دائماً أن مفردات شعر الغناء السوداني حينما تأتي مقرونة بحلو أنغام السلم الموسيقي الخٌماسي( وهو سلم غنائي عالمي) قد جعل الموسيقي السودانية تحتل دائماً مركز الريادة التطريبية لو كان إعلامنا يعرف دوره المهني تماماً ويلتفت قليلاً إلي بذل جهد متخصص ويلتفت قليلاً إلي مهامه الأساسية في دعم وتشجيع المبدعين من أهل السودان وتوثيق وتسجيل كل منجزاتهم ، بدلاً عن هذا التطبيل الأجوف الذي ولي زمانه ولم يعد لغة متحضرة تواكب ماهو مطروح في ساحة الإعلام العالمي اليوم بعد ان إختصرت التقنية والآلة الإعلامية الحديثة كل المسافات بين الدول ، فلم يعد (الإستايل) القديم في العمل الإعلامي مجدياً مع هذه المنافسة الحامية تحت ظل هذا التمدد والتعدد الفضائي في التلفزة وعالم الأخبار. وفي الخرطوم عندما لم تتح الأجهزة الرسمية الإعلامية لأعمال هذا الكروان الراحل من أن تخرج للناس بكل جماليات مفردات الشعر الغنائي الذي يرمز للوطن فإن شباب بلادنا قد طوروا أساليب عملهم كي يوصلوا رسالتهم الخيرة للجماهير فإبتدعوا أسلوب عقد المنتديات الثقافية كي يتواصل الفعل الثقافي النقي الذي يتحدث عن قضايا الوطن من خلال الطرح الأدبي والفني، فكانت تلك المنتديات هي الرئة التي ظل يتنفس من خلالها شباب السودان أكسجيناً نقياً داخل الأحياء وفي دور الطلاب بالجامعات...
وتتواصل إبداعات الكروان الراحل .... في الحلقة القادمة، وإلي اللقاء.


لغة العيون في الغناء السوداني
بقلم : صلاح الباشا ..الدوحة
E mail : salahelbasha@hotmail.com


--------------------------------------------------------------------------------


نستريح قليلا في جولة خفيفة مع أجمل أبيات الشعر الغنائي السوداني قديمه وحديثه والذي يدور محوره في وصف العيون…ومما لاشك فيه أن العيون ومشتقاتها من نظر ولحظ وبصر ورماح وسهامإلي آخر القائمة قد ورد ذكرها كثيرا في شعر الغناء السوداني ،وقد سجل الشعراء إبداعات عديدة ومتباينة في هذا المجال ، وإن لم تكن كلها رائعة فهي تميل إلي الطرافة في رقـة توظيفها للغرض المحدد.علما بأن الشعر العربي الغزلي عبر مسيرته التاريخية كلها منذ العصر الجاهلي كان للعيون فيها حظاً وافراً من قديم الزمان 0
فمثلا في أغاني شعراء الغناء السوداني القديم والذي يطلق عليه مجازا أغاني (الحقيـبـة) نجد أن هنالك صولات وجولات لشعرائها في منطقة العيون تحديداً ، بالرغم من أن ( بنات زمان) ليس من السهولة أن تري أعينهن ( وليس كحال البنات اليوم) واللائي ربما لا تجد للعين فيهن جاذبية سريعة نظراً لكثرة الحوامة في الشمس والإنتظار للحافلات التي تقلهن لمدراسهن أو جامعاتهن أو حتي مكاتبهن ، فضلاً علي المدافرة في أبوجنزير وغيره من المواقف العجيبة، ولا ننسي إجهادا العيون في ( كثرة المذاكرة ) للشهادة وخلال سني الدراسة الجامعية ، كما لاننسي الجهد المبذول في مشاهدة التلفزيون والفضائيات ، وأخيراً الكمبيوترات.


فالشاعر سيد عبدالعزيز قبل سبعين عاما قال:


نظره ياالسمحة أم عجن لوكان قليل يشفي البدن
عريس صفا الأيام وبيه أنظر جمال تـلك الفتن


وهنا إستخدم الشاعر كلمة النظر بدلا عن العين . أما إذا مررنا علي أغاني الراحل (كرومه) والتي يتغني بواحدة منها الفنان أحمد المصطفي سنجد الأغنية الشهيرة تحتوي علي عدة مقاطع منها علي

العيون:


أنا مامعيون أزاي ودواي خدود وعيون
لحاظا يــخيف قـايد الـمليون
وتــرهب عـنـتـر ونابلـيون
حـلـيف آلامي عـيوني عـيون
دي ملكه جنــودا شلوخ وعيون


وقديما كان يغني فنان ودمدني الراحل الخير عثمان في إحدي تسجيلاته بالإذاعة
عيوني وعيونك أسباب لوعتي
ولاننسي أيضا أغنية الراحل(أبوصلاح) بدور القلعة ،والتي يتغني بها محمد الأمين منذ زمن مبكر:


العيون النوركن بجهرا
غير جمالكن مين السهرا
يابدور القلعه وجوهرا


وكيف ننسي ودالرضي منذ أكثر من خمسين عاماً عندما قال لهن في ودمدني أمام كلية المعلمات حينما كان بالصدفة هناك ورأي نظراتهن تحوم :


يعاينن شوفتي .. في كامن ضميري ويمحن
والشاف فاتن جمالن وإنتظارن .. رمحن
قلوباً ما إنشون بي نار غرامكن و قمحن
الله يكبرن.. الكبرني وسِمحن


كما أن الراحل إبراهيم الكاشف ردد في الكثير من أغانيه لغة العيون ،ولنري:-


جـنـنـني ياخي العيون عيون حبيبي
هن أساس الريد والجنون
العيون الفيهن نعاس000هن أساس معني الجناس
هن بقيدن في الروح حماس00هن يقودن زول للجنون


كما تغني أبو الأمين أيضا للشاعر فضل الله محمد بتلك الرائعة ( ذات الشجون) والتي أخفاها محمد الأمين منذ الستينات ليخرجها للنور في الثمانينات في حفلة لندن الشهيرة والتي توزعت عالميا في شكل كاسيت وفيديو بواسطة الشركة المنتجة للحفل وهي شركة ( حصاد للإنتاج الفني) بالخرطوم :


ماهو باين في العيون 00وين حنهرب منو وين
الهوي البعث الليالي .. الحالمه في ذات الشجون


وكيف لا تـفوت الفرصه علي الراحل ودالقرشي حينما غرد البلبل الراحل عثمان الشفيع له:


الليله وين ياعيـنيا بيتكم بي ويـن ياعيـنيا
أنا ما بنوم ياعينيا عدد النجوم ياعـيـنيا
يلاك نقوم ياعينيا الخرطوم عموم ياعـينيا


ويتدخل ابوعركي البخيت في الميدان ويحلق بنا بأغنيته الخـفيفة وبإيقاعها السريع والتي كتب هو كلماتها :-


حلوه عيونك فيهن روعه ** فيهن حب بتمثلو لـوعه
قلبك طيب زي روح شمعه**تضوي قلوبنا وتمسح دمعه


ثم يتفجر (فنان الفنانين) الأستاذ محمد ميرغني ذو الصوت الطروب في كلامه للعيون ومن أشعار الشاعر المتألق التجاني حاج موسي :-


كلمني ياحـلو العـيون*** أديـني عطفك ياحنون
كلمني حاول حس بـي** عاتـبني أرمي اللوم علي
كلمني والكائن يكون0


ولقد دخل الشاعر الراحل عثمان خالد الميدان منذ زمن مبكر عندما تغني له إبن البادية (رحلة عيون):


ننساك 00هو إنت بتتنسي00ماإنت روحنا وحبنا
سافرنا في عينيك ولسه00قلوبنا بيك متجننا


وهنا أيضا يأتـي الكلام الجميل من الراحل الـمتفرد الغزير الإنتاج (إسماعيل حسن )حيث حلق بنا الأستاذ محمد وردي ومنذ أكثر من أربعين عاما بالأغنية المتجددة في العيون:-


يانور العين إنت وينك وين
الشعر الناعم بعطرو أسرني
والوجه الناير بنورو غمرني
وعيون نعسانه برموش تجرحني


خلـتني مـتيم وين راحت مني
وأيضاً كتب إسماعيل حسن تلك المفردات التي تغني بها محمد ميرغني ومن ألحان حسن بابكر - بالطبع- أغنية:


أمسكي عليك عيونك ديل أمسكيهن
يعاينن لي .وزي شباك منور
في ظلام الليل
ده شيتن أصلو ما شفناه
لا في الناس ولا في الريل
ده ماقدر الله جانا عديل أمسكيهن
عيونك ديل


ثم يأتي الكلام العربي الفصيح من الشاعر الإستاذ الـمـتمكن جدا من التعبير بصحيح اللغة
وحلوها (الحسين الحسن) متعه الله بالهعافية حينما تغني له الكابلي بالقصيدة الـمتميزه والمشهورة عربيا 0 (إنـي أعتذر):-


وقد كنت أعلم أن العيون **تقول الكثير الـمثير الـخطر
ولكن برغمي تـفشي الخبر**وذاع وعم القري والـحضر


ونـختم بأحلي الكلام في الشعر العربي حيث قال (جريـر) قديمـا في الشعر ( الماخمج):


إن العيون التي في طرفها حور
قـتـلـنـنا ثم لم يحـيين قـتلانا
يصرعن ذا اللب حتي لاحراك به
وهن أضـعف خـلق الله إنسـانا


والشعر الغنائي بالسودان يزدحم بهذا اللون من الوصف ولا يتسع المجال لإستعراضه كله ونكتفي بهذا القدر آملين أن تكون تلك السطور وجبه خفيفه الهضم علي القراء الكرام .. ونقصد بالقراء هنا …أولئك الذين يتذوقون مفردات الإبداع فقط لاغير

No comments:

Post a Comment