Sunday, April 5, 2009

عصام عبدالرحيم - اتكاءه على جــدار الصمـــت - قصة

اتكاءه على جــدار الصمـــت

بقلم القصصي السوداني

عصام الدين أحمد عبدالرحيم


-------------------------


فى ليلة صيف قمرية اتكأت على جدار الصمت وغفوة أمام التلفاز .. .. يا جهاد .. يا نهاد .. يا صغير .. يا كبير هناك حجر يناديك .. تدور عجلة الزمن وتقسو الأيام علينا لحظة بعد لحظة .. ونقف بصمود .. .. بكبرياء .. .. نتحدى المحن .. ونصول ونجول حتى نسقط فى ساحة الأقصى الشم مرفوعي الرأس عزة وكبرياء ..

فى سكون الليل البهيم دوي صوت قنابل وقاذفات صواريخ .. وضجيج آليات تزحف فى الطريق .. تَنَادينا .. تَدَاعينا .. وكان أول البيوت لشيخنا ورائدنا أبو سلمي الأشقر .. وصلنا إليه ولكن كان لحظتها " البلدوزر " قد قال كلمته فى المبني الذى كان رمزاً لنا كصاحبه .. اختلطت حجارة البناء بالدماء .. وزحف " البلدوزر " نحو المسكن الثاني والثالث .. وبين الأنقاض كان هنالك جسد نحيل صغير ضاعت معالمه التى كانت بالأمس رمز للطهر والبراءة .. للحظة تجمدنا من هول القسوة والجبـروت .. ثم انطلقنـا فى كل حـدب وصوب نجمـع الحجارة .. نقذف .. نرمي إنها عليهم حمم من نار ..

بالأمس القريب كان وجهها الصغير الملائكي الباسم يتفتح ويتوهج .. ترقد على سريرها المزخرف ترفع يديها ورجليها فى عبث طفولي زاخر بالبراءة .. وردة تنتظر الغد لتزداد تفتحاً ونضارة .. ولكن تخطفها الأيادي الغادرة الغاشمة .. وترمي بها فى أخدود الإبادة الجماعية الذي لا يفرق بين صغير وكبير .. نسيج جسدها البض يختلط مع دماء جدها التى أرتوت من كيد الخبثاء واسودت من لسع سعير الجبناء .. آه يا فلسطين العروبة .. آه يا فلسطين السلبية .. آه يا مهد الأنبياء يا من تركت وسط النيران وحيدة .. جاء اليوم الذي وقف فيه المقربون يتفرجون .. وينددون .. .. وإذا أدلهم عليهم الليل أكثر يتباكون .. ولكن هذه المحن والأيام المقلوبة ستعيد التاريخ كرة أخري وسيولد من رحم الفجيعة من يفقع عين الجبروت ويحطم سطوة التسلط ..
- يا أستاذ .. يا أستاذ .. أين سارح أنت ؟
- آه … نعم .. آسف .
- أليس هذا البيت الذي تقصده ؟
- نعم .. شكراً لك .. " أعطيته ما اتفقنا عليه "


وسرت بخطوات ميتة نحو الباب العتيق وطرقته بإبهامي الأيمن طرقات خجلي ترددت فى أذني تذكرني بدقات المطر على سطح منزلنا المتهالك فى ليالِ الخريف التى كانت حبلى بالغيث والأماني المنمقة ومنازل الرمال المتهالكة - كان منزلنا عبارة عن خيمة من بقايا الصفيح والزنك الصدى - فى تلك المدينة التى قضيت فيها نعومة أظافري فى الزمن الحالم الذي انقصي ولم نك نعلم منه سوى حكاوي الآباء والأجداد .. وجاء صوت رفيقي ( النخلي قيثارة الشعر الغنائي ) من بعيد يردد طلماته التى اعتصرها من بين جوانحه المملوءة شوقاً وشبقاً بالوطن المعني ..
شبه حريق فى
قلب النسمة
وسدا طريق
الحب والبسمة

الدار غريبة ومكلومة .. والأنامل تمتد خجلي ومرتجفة .. والأعين ذابلة محمرة .. والقدر المحتوم مرسوم بين الحدقات خطوط وتجاعيد .. والحقد النابع من ويل الليـل الآسن مكنون فى النفوس .. والمرجل يغلي ينفث ناراً ودخاناً .. .. وأطفالاً وحجارة .. والمخلصون الصارمون يذهبون ضحايا السكك الملغومة .. وآخرون ينعقون فى حلقات مفرقة .. ومتاهات سلام موهومة .. والأجساد الصرعى تلهب النفوس الأبية وتزرع فى رحم الزمن للأمل بقية .. ..

ويتهادى الحلم .. فى خطى الصحو وينداح لحظة ويتبعثر لحظات .. وتتقارب المسافات وتسرع عقارب الساعات ويقف الزمن فى لحظة مشحونة بالأمنيات الصريعة .. وتمتزج الصورة .. الوطن البعيد .. والوطن القريب .. وما بين الاثنين خيط رفيع .. ومسافات للخوف والفجيعة .. ومتاهات تنبع من جعبة الماضي المغبون والمترع بالأحزان والقطيعة .. وليالِ الصيف القمريـة .. تفضح ليـل الغربة المسكوب فى بحر الأسية .. وتولد صبحاً فى الأعماق منسيا .. وخلـف المدى البعيـد بريـق النـور وحـد السيف .. ودقة نقارة ورقصة بقارة .. .. ورنة ربابة ووشمة نيلية .. ونمه عربية .. .. تتلاحم تتزاحم تبحث عن ألق اللقيا وشفافية الموقف وبعد الرؤيا .. .. وسماحة التراحم والتعايش .. ومجداف النيل يضرب عبر اليم .. يصيح يا وطن لن تندم .. .. يا وطن لن تندم .. لن تندم مد أياديك وأتصافح .. وضم أولادك الطيبين .. شد الحيل على جيرانك الغـادرين .. ما أنت حلبـة الزهاد ودار العباد وزاد للتقوى .. وصباح الأعياد .. يا وطن أصرخ ..


يا وطن انضح وافصح .. ولملم شتات أولادك الضائعين .. وسد الثغرة والفجوة .. وابني دار من طين الطمي الريان .. فيها ملامح النيل وسمرة ناسك الطيبين .. .. ويأتيني صوت رفيقى " النخلي " يناجيني يؤرقني .. ..
اقرب واحبس الأنفاس
أوسد روحي صمت السور
أنادي الشُفع القاعدين
على رملك يكوسو شليل
رجع مرتد صدى الندهة
كسر روعة وقار الليل
ظهر وجهك حزين باكي
مسيج بى غبار الويل

ورددت عليه بأول المقطع المحفور فى ذاتي والممزوج بدمي ..
مساءً تومض الذكري
على قلب الحجر عصفور
يكاتل قمرك الظلمة
يلم قلبك شتات النور

وصحوت على صوت الموسيقي .. وفى النفس غصة ممزوجة بالأمنيات
---------------------

عصام عبدالرحيم
عصام الدين أحمد عبدالرحيم


=============
مجلة النافذة 2002

No comments:

Post a Comment